صورة خاصة بموقع "تضامن مصر" ©
لا شك في أن الحديث عن ظاهرة الحركات الاحتجاجية في مصر، قد تواتر في الآونة الأخيرة بشكل ملحوظ، وأن السلوك الاحتجاجي لقطاعات كبيرة ومتباينة من المواطنين، قد تحول من كونه فعلاً غير معتاد إلي واحد من أكثر الأنشطة والممارسات اليومية تكراراً بين عدد ليس بالقليل من الأفراد غير المسيّسين داخل تضاريس المجتمع المصري المختلفة، حيث توضح بعض الإحصاءات والتقديرات غير الرسمية مشاركة أكثر من 2 مليون عامل منذ عام 1998 في أكثر من 3300 نشاط جماعي تنوع بين الإضراب والتظاهر والاعتصام وغيرها من الأفعال الاجتماعية المنظمة احتجاجاً علي تدني الأجور، وعدم دفع الحوافر والمكافآت، وفشل مستثمري القطاع الخاص في التقيد بالتزاماتهم التعاقدية تجاه العمال، ويكفي أن نشير هنا إلي رصيف مجلس الشعب الذي تحول خلال الشهور القليلة الماضية إلي واجهة ثابتة لإستقبال حشود متتالية ومجموعات غير متجانسة كان من بينها العمال والموظفين والفلاحين والمعاقين من أغلب محافظات مصر، والذين لم يحركهم سوي مطلب واحد فقط هو الاحتجاج من أجل الحصول علي حقوقهم المسلوبة أو المنتهكة من جانب مؤسسات وأجهزة الدولة.
والحقيقة أن انتشار هذا النمط غير المألوف من السياسة التحتية في مجتمعنا، يمكن تفسيره جزئياً بمجموعة من العوامل والأسباب التي شكلت في مجملها بيئة لفرصة سياسية تم إستغلالها من قبل المواطن في صراعاته اليومية مع السلطة، ثم إتسع هيكل هذه الفرصة تدريجياً مع زيادة حجم الدعم والتأييد والاستخدام من قبل أغلب القوي والتيارات السياسية المعارضة لهذا النوع الجديد من سياسات الشوارع، خاصة مع نمو ظاهرة تحول المواطنين من حالة اللامبالاة الكلية أو علي أقصي تقدير من حالة المشاهدة الصامتة إلي حالة المشاركة الاحتجاجية، والناتجة عن فقدانهم الثقة في جدوي قنوات المشاركة السياسية التقليدية، وتزايد معدلات التناقض بين السياسات والقرارات الحكومية من جانب، والإرادة الشعبية المعبرة عن طموحات المواطنين من جانب آخر، ويمكن إيجاز أهم هذه العوامل في النقاط التالية:
أولاً: ارتفاع درجة شعور المواطن بالحرمان النسبي نتيجة الإسراع غير المدروس في مواصلة تطبيق سياسات التحرر الاقتصادي والخصخصة، مما أدي إلي ارتفاع معدلات البطالة والفقر بشكل غير مسبوق، وجمود الحد الأدني للرواتب والأجور، وزيادة الفوراق الطبقية وعدم عدالة توزيع الدخل، بالإضافة إلي نفاذ العديد من رجال الأعمال إلي دوائر صنع القرار التشريعية والتنفيذية في الدولة، وانتشار مظاهر الفساد المؤسسي في العديد من مؤسسات الدولة المدنية، بشكل ساعد علي تحويل أموال عامة إلي أصول خاصة. وهو الأمر الذي أدي ويؤدي إلي تنامي الاحساس بعدم القدرة علي سد أبسط الحاجات الإنسانية لدي شرائح الطبقة الوسطي الهامة من خريجي الجامعات والمثقفين والمهنيين وأصحاب المشروعات الصغيرة والعائلية.
ثانياً: زيادة درجة الانفتاح السياسي المحدود أو المقيد الناتج عن محاولة تكيف الحزب الحاكم مع ضغوط التغيير السياسي والتحول الديمقراطي الداخلية والخارجية، وذلك من خلال رغبته في تقديم بعض التنازلات الشكلية في مجال الحريات المدنية والسياسية للقوي والجماعات المعارضة، ولكن بالتوازي مع زيادة درجة الاهتمام وحجم الإنفاق علي آليات الضبط السياسي والاجتماعي بما يضمن الحفاظ علي القيم الدولانية مثل الاستقرار، والأمن، والنظام، والمحافظة علي الوضع الراهن. حتي وأن لم يحقق هذا النمط الإصلاحي النخبوي الحد الأدني من طموحات وآمال الجماهير المصرية العريضة الراغبة في تأسيس خصائص الديمقراطية الناشئة، كمقدمة تمهيدية لترسيخ قواعد ومعايير الديمقراطية المستقرة.
ثالثاً: بداية إنهيار وتفكيك ثقافة الخوف من النظام ومؤسساته الأمنية رغم تنامي قبضتها، وهي الثقافة التي تأصلت في سلوك المواطن المصري، وكانت تشكل عائقاً رئيسياً أمام مشاركته الفعالة في الحياة السياسية، ولكن ارتفاع حجم الخسائر وتراكمها عبر الزمن كان سبباً في كسر حاجز الخوف لدي كثير من الناس، وربما يرجع الفضل الأول في ذلك إلي الدور المحوري الذي لعبته الحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية) وروافدها المختلفة في تدشين مجموعة من التظاهرات والاضرابات التي خرجت إلي الشارع في مواقف وأحداث متباينة دون الحصول علي تصريح أو أذن مسبق من الأجهزة الأمنية، وكان هذا بداية التوجه إلي تجاوز ثقافة الخوف والإنكفاء علي الذات.
رابعاً: الإستفادة من التطورات الهائلة وغير المسبوقة في تكنولوجيا الاتصال والمعلوماتية، التي قدمت عمليات "تسويق سياسي" مجانية وسريعة من جانب وسائل الإعلام الجديدة، وتمثلت في بروز دور مجموعة من القنوات الفضائية الخاصة ووكالات الأنباء العالمية ومواقع الانترنت الأخبارية باعتبارها مصدراً للمعلومات والأخبار كبديل لقنوات الإعلام الحكومي الموجه من قبل النظام، بالإضافة إلي ظهور مجموعة من نشطاء الانترنت المصريين الذين أصبحت مدوناتهم وشبكاتهم الإلكترونية عبارة عن صوت لكل مواطن يسعي إلي المطالبة بالتغيير والتحول الديمقراطي من أجل إستعادة الحقوق المسلوبة سواء كان ذلك في إطار العمل الفردي أوالجماعي، وهو الأمر الذي تراجعت معه القدرة النسبية للنظام الحاكم في استخدام السياسات القمعية ضد الجماعات والقوي المعارضة له.
خامساً: الدور المساعد الذي لعبه العامل الخارجي، وذلك بعد تزايد حرص وكالات الأنباء وقنوات الأخبار العالمية علي متابعة وتغطية كافة الأحداث والفاعليات السياسية الداخلية، وكذلك تنامي السياق الدولي الذي دفع باتجاه عولمة مرجعية حقوق الإنسان ومبادئ الحكم الديمقراطي، وأكد علي تزايد دور المنظمات والشبكات الحقوقية غير الحكومية عبر تدويلها لبعض قضايا انتهاكات حقوق الإنسان في مصر.
و بالرغم من أن السنوات الخمس الماضية قد شهدت مجموعة من التغيرات والتطورات الملحوظة في استراتيجة عمل حركات الاحتجاح المطلبية والفئوية تحت تزايد وطأة الاحتقان الإجتماعي والظروف المعيشية القاسية التي يعاني منها أغلب المواطنين المصريين، شكلاً ومضموناً، بدءاً من الانتشار الكمي لمثل هذه الحركات الاحتجاجية في كل مكان بمصر تقريباً، ومروراً بتواجدها النوعي بين شرائح اجتماعية مختلفة مثل المهندسين وأساتذة الجامعات والأطباء والعمال والطلاب..ألخ، وانتهاءاً بتنوع الآليات والتكتيكات المستخدمة في التعبير عن السلوك الاحتجاجي بين التظاهر والإضراب والاعتصام ورفع الدعاوي القضائية وتكوين الكيانات البديلة، إلا أن التساؤل الذي يطرح نفسه بشدة في هذا السياق هو: لماذا فشلت مثل هذه النوعية من الحركات الفئوية والمطلبية حتي الآن في ممارسة الانتقال من حالة الاحتجاج العرضية إلي حركة اجتماعية موحدة تعمل في اتجاه الضغط علي النظام السياسي لتحقيق الحد الأدني من المطالب الإدماجية والديمقراطية للغالبية العظمي من فئات الشعب المصري؟ وذلك مثلما حدث في التجربة البولندية التي استطاعت فيها نقابة "التضامن" المستقلة بقيادة ليخ فاليسا(Lech Walesa) التحول من مجرد لجنة صغيرة لإدارة إضراب العمال في مدينة غدانسك إلي حركة اجتماعية شعبية منتشرة في جميع أرجاء البلاد، استمرت في نضالها السلمي ضد أكبر الأحزاب الشيوعية في أروبا الشرقية منذ تأسيسها في عام 1980 وحتي تمكنت من هزيمته في أول انتخابات ديموقراطية شهدتها البلاد عام 1989.
والإجابة علي التساؤل السابق طرحه تحتاج أولاً إلي التعرف علي آليات بناء الفعل الاجتماعي الموحد من حركات الاحتجاج المطلبية والفئوية، والمتمثلة في ضرورة تحقيق التوفيق والتلازم بين جانب الفعل الأدواتي (Instrumental actions) وجانب الفعل التواصلي (Communicational actions) في استراتيجة عمل مثل هذه النوعية من الحركات الاحتجاجية، أو بعبارة أخري يمكن القول أن نجاح أي فعل اجتماعي يتوقف علي وجود فعل وفاعل وسياق، وفاعلين يتوجه إليهم الفعل، وتوقعات وأهداف مشتركة يسعي الفاعلون إلي تحقيقها من خلال آليات ووسائل متنوعة داخل موقف تواصلي موحد يجمعهم، وهو أمر لم يتوافر حتي هذه اللحظة في التجربة المصرية، حيث ركزت معظم حركات الاحتجاج المطلبية والفئوية التي ظهرت في البلاد خلال الفترة الماضية علي إعطاء أولوية لأسلوب العمل الأدواتي- الذاتي علي أسلوب العمل التواصلي مع الآخرين، وهي الظاهرة التي لا تتسع فيها عين المواطن المشارك في هذا السلوك الاحتجاجي الفئوي إلا لرؤية المصلحة الشخصية الضيقة والمتواجدة في المجال الخاص محدد النطاق دون النظر إلي المجال العام واسع النطاق الذي يتواجد فيه آخرون يعانون من نفس الهموم والقضايا، ويسعون لطموح مشترك يمكن أن يجمع مصالحهم، مما سهل من مهمة النظام السياسي أثناء تطبيقه سياسة تجزئة المطالب التي اتبعها لفترات طويلة للحيلولة دون تجميع شرائح مختلفة من المواطنين تحت لواء هدف واحد، وعزلهم عن بعضهم البعض حتي لا يتمكنوا من التضامن أو التحالف معاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق