الأربعاء، 2 ديسمبر 2009

الثقافة الافتراضية وتحولات المجال العام السياسي: ظاهرة الفيس بوك في مصر نموذجاً



ربما كانت أهمية دراسة "الثقافة الافتراضية وتحولات المجال العام: ظاهرة الفيس بوك في مصر نموذجاً" لمؤلفها إسلام حجازي المعيد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، والصادرة ضمن سلسلة قضايا من المركز الدولي للدراسات المستقبلية والاستراتيجية، أنها تُشير إلي واحدة من الحقائق التي يشعر الجميع بوجودها، لكنهم لا يعرفون غالباً تعقيداتها، فقبل عدة سنوات كان "الواقع الافتراضي" أشبه بأفلام الخيال العلمي، أوتكنولوجيا ألعاب الفيديو، لكن لم يلبث الجميع أن أدركوا أن الأمر قد تجاوز ذلك بكثير إلي تشكيل ما يُشبه عالم واقعي داخل العالم الافتراضي، ووصل الأمر إلي حدوث صدام بين العالم الافتراضي وساكنيه، مع عالم الواقع، بل ووجدت قوي اعتادت علي العمل في المجال العام الذي تعرفه، فرصة للتفاعل مع سكان العالم الآخر.
فلا شك أن التكنواوجيا الحديثة وتطبيقاتها قد خلقت عالماً موازياً يوجد علي الانترنت، ووجد جيل كامل ممن لا يرتبطون بعلاقة تفاعل حقيقة مع مؤسسات العالم الحقيقي، كالأحزاب السياسية أو منظمات المجتمع المدني، مكاناً لهم في العالم الافتراضي، ليقوموا بتشكيل جمهوريات، أو محاولة تخيل ذلك، وتنظيم إضرابات، أو محاولة عمل ذلك، وبرز إسم كبير تُركز عليه هذه الدراسة، هو "الفيس بوك"، الذي شكل واحداً من أهم القارات الكبري البارزة في العالم الافتراضي. وبالرغم من وجود اعتقاد سائد بين عدد كبير من الأكاديمين والباحثين في دول العالم الثالث بأن البحث في المجتمعات الافتراضية يعد نوعاً من أنواع الترف العلمي الموجود في الدول المتقدمة، وهو أمر قد يكون له مايبرره، خاصة وأن غالبية هذه الدول تعاني من وجود عدد لا حصر له من المشكلات والقضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتفاقمة، التي قد يكون لها الأولوية في الدراسة والتحليل علي العلاقات الافتراضية المجردة، ولكن قد يختلف الأمر عندما يؤثر ما هو افتراضي علي ما هو واقعي في شتي نواحي الحياة، أو حتي حينما تزداد حالات هروب الإنسان من عالمه الواقعي الذي ألف العيش فيه بكل ما فيه من تفاعلات وعلاقات ومشاكل وهموم إلي عالم آخر أو حياة ثانية تتجاوز حدود تلك المشكلات وتتميز بالسهولة والترف والمجانية واللامحدودية.
إن هذه الدراسة تحاول أن تطرح مرة واحدة كل الأسئلة التي ثارت في الفترة الأخيرة بشأن الثقافة السائدة في ذلك العالم الافتراضي الجديد، وتظل هذه الدراسة شديدة الأهمية، باعتبارها تشكل واحدة من الدراسات الأولي التي تحاول دراسة حدود تأثير ظاهرة "الفيس بوك" في تشكيل الثقافة الافتراضية لدي الشباب ومعرفة قدرتها علي ترتيب الأولويات والقضايا ا لموجودة في داخل الأجندة السياسية الخاصة بالمجتمع، وذلك باعتبارها أحد العوالم الافتراضية الوليدة التي قام بنحتها مجموعة من الشباب، الذين قرورا عدم الانزواء السياسي وفضلوا التفاعل مع الشارع عن طريق استخدام الانترنت في مجالات غير تقليدية، وكوسيلة متطورة للتعبير عن الرأي دون قيود وللتخلص من ظاهرة "الاحتباس السياسي " المفروضة عليهم، والناتجة عن التناقض الموجود بين القيم والمبادئ والأفكار والمعتقدات التي يؤمنون بها وتلك التي ينشرها مسئولي النظام الرسمي داخل الفضاءات التقليدية الموجودة في الواقع الإجتماعي.

الاثنين، 2 نوفمبر 2009

الأتوقراطية المُلبرلة ومشروع التوريث المرتقب



استحدث الحزب الوطني الديمقراطي في عام 2002 أمانة جديدة باسم "أمانة السياسات"، وترأسها جمال مبارك نجل الرئيس المصري، وهي اللجنة التي اقترن اسمها منذ ظهورها بمصطلح "الفكر الجديد" كتعبيراً عن التوجهات الإصلاحية لاستكمال ما أسموه بمسيرة التعامل الجدي مع الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد، وبدي للكثيرين أن هذه اللجنة ستكون بمثابة دينامو الحزب الحاكم في رسم الخطوط العريضة للسياسات العامة الخاصة بعملية الإصلاح السياسي والدستوري خلال الفترة القادمة، بينما أكدت بعض القوي السياسية المعارضة أن هذه الخطوة ما هي إلا خطوة تمهيدية في سيناريو تصعيد نجل الرئيس مبارك لخلافة والده في السلطة، وأن ما يطرحه الحزب الحاكم ما هو إلا تزويق وتجميل بالشعارات في إطار حملة منظمة من التسويق السياسي الزائف، وقد ازداد هذا الطرح الفكري بصورة واسعة بعد تعديل المادة (76) من الدستور الخاصة بانتخاب رئيس الجمهورية، والتي وضعت مجموعة من الإجراءات والشروط التعجيزية التي تضمن بقاء جمال مبارك كمنافس وحيد علي انتخابات الرئاسة القادمة، بالإضافة إلي ما شهدته السنوات الماضية من زيادة مساحة الحضور السياسي لنجل الرئيس في الداخل والخارج، بالرغم من عدم وجود أي صفة رسمية أو دستورية تؤهله للقيام بهذه الأدوار.
وقد تمكنت هذه المجموعة بالفعل من إزاحة عدد من القيادات التاريخية في الحزب والحكومة الذين تربوا سياسياً علي مفاهيم ما كان يعرف بـ"الاتحاد الاشتراكي" أيام الرئيس السابق جمال عبد الناصر، حيث تقلد أنصار تلك المجموعة عدد كبير من المواقع التنفيذية في الأمانة العامة للحزب الحاكم، وفي مجلس الوزراء تدريجياً، كان من أبرز محطاتها تعديلات وزارية في عامي 2004 و 2005، بالإضافة إلي تولي عدد من الصحفيين الشبان قيادة مجموعة من الصحف القومية، وقد ظهرت تجليات بحثية وفكرية متعددة تؤكد وجود صراعاً خفياً بين جناحين في الحزب الحاكم، أحدهما يقوده جمال مبارك ومعه عدد من الرموز الشبابية النشطة علي كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، واطلق عليهم "الحرس الجديد"، بينما وصف الآخر بـ"الحرس القديم"، الذي كان من أبرز رموزه يوسف والي الذي تقلد لوقت طويل منصب الأمين العام للحزب، ونائب رئيس الوزراء، ووزير الزراعة، وكذلك كمال الشاذلي الذي يوصف بأنه أقدم نائب برلماني في العالم، وشغل مناصب عديدة في الحزب الحاكم والحكومة، كان من أهمها موقع أمين التنظيم، ووزير شؤون مجلسي الشعب والشوري.
وبالرغم من تعويل بعض الكتابات والآراء علي دور الصراع بين ما اسمته بالحرس القديم والجديد بالحزب الوطني في عملية الإسراع بتفكيك وإنهيار بنية التسلطية التنافسية في النظام السياسي، إلا أن الواقع الفعلي يؤكد أن النخبة الحاكمة مازالت تتمتع بدرجة مرتفعة من التماسك بين أعضائها حتي مع تحولها المقصود من نموذج الأتوقراطية الكاملة إلي نموذج الأتوقراطية المُلبرلة "Liberalized Autocracy" عن طريق إدماج بعض الجماعات الجديدة من رجال الأعمال والبيروقراطيين والمهنيين الراغبين في تحرير الاقتصاد، وذلك بهدف تسهيل عملية انتقال السلطة من الرئيس مبارك إلي نجله، حيث أن المصالح والروابط الموجود بين تلك النخب الجديدة والنخب القديمة، والتي تعتمد في جزء كبير منها علي علاقات العمل المشترك والقرابة والمصاهرة وغيرها مازالت قادرة علي إحداث التماسك والوحدة بالشكل الذي يمنع حدوث أي إنشقاق داخلي فيها، يكون من شأنه التأثير في مسار التحول الديمقراطي بالبلاد، بل والأخطر من ذلك هو أن سيطرة طبقة رجال الأعمال علي تركيبة هذه النوعية الجديدة من النخبة بنسبة تتعدي حاجر الـ 30 % في عضوية أمانة السياسات، وتوزيع ثرواتها في مجالات مختلفة مثل الصناعات الثقيلة، والطب والدواء، والمقاولات، وقطاع البنوك وشركات الأوراق المالية وغيرها، يجعلها قادرة علي إتمام مجموعة كبيرة من "المقايضات السياسية" القائمة علي الزبائنية أو شراء الولاء مع باقي فئات النخبة من البيروقراط والتكنوقراط والمهنيين ورجال الدين، بهدف توظيفهم لخدمة أهداف ومصالح طبقة رجال الأعمال في إطار مع المنافع المشتركة بينهم، والتي من أهمها ضرورة العمل علي إعطاء دور سياسي لأمين لجنة السياسات، باعتباره مرشحهم للانتخابات الرئاسية القادمة التي سوف تشهدها البلاد في عام 2011، ناهيك عن وجود عدد كبير من القدرات المالية والدعائية لدي هذه النخبة المسيطرة التي تستخدم فيها مؤسسات الدولة وأجهزتها، بالشكل الذي يؤدي إلي زيادة نسبة الاستحقاقات الانتخابية لها بالرغم من ضعف قبولها الشعبي، وبما يمكنها من حسم الأغلبية في الانتخابات التشريعية لعام 2010، خاصة وأن هذه النخبة مازال لديها قدرة متوسطة علي القمع تتراوح صعوداً وهبوطاً بالاعتماد علي شعبية المعارضين الداخلية وروابطهم من المجتمع الخارجي، إذ مازالت تحتفظ بهيكل تشريعي ودستوري به قدر كبير من الثغرات التي تمكنها من ممارسة القهر علي المعارضين، والتي يقع علي رأسها قانون الأحزاب السياسية وقانون الطوارئ.
وبعد مرور سبعة أعوام كاملة علي ما اعتاده المواطنون من سماع خطابات وتصريحات متكررة من قيادات النخبة الأتوقراطية المُلبرلة في كل مؤتمر يعقده الحزب حول بدء تفجير ثورة "التطوير والتحديث" داخل أروقة الحزب، وسياسات الإصلاح السياسي، والتكافل الاجتماعي، وحقوق المواطنة، وغيرها من الشعارات التي رددها قيادات الحزب الوطني منذ مؤتمره العام الثامن في 2002، وحتي مؤتمره السنوي السادس لعام 2009، يمكن القول أن النتائج الفعلية التي حققتها هذه الخطب والشعارات علي أرض الواقع في مجال تعميق الممارسات الديمقراطية مازالت محدودة ومتواضعة للغاية، حيث أنها لم توفر حتي الآن الحد الأدني من الشروط والمعايير التي يمكن بها الانتقال بمصر من مصاف دول التسلطية التنافسية إلي دول الديمقراطيات الناشئة، تمهيداً لدخولها إلي دول الديمقراطية الراسخة، فهي لم تمثل في مجملها إلا نوعاً من أنواع الانفتاح السياسي المحدود أو التكتيكي"Limited Political Liberalization"، عبر تقديم مجموعة أولية من التنازلات في مجال الحريات المدنية والسياسية للقوي والجماعات المعارضة، بما يتلائم مع رغبة النخبة الحاكمة في التكيف أو التعايش مع تزايد الطلب المجتمعي علي الديمقراطية ، ويحافظ علي تركيبة بنية السلطة وشكل نظام الدولة شديد المركزية في نفس الوقت، والذي لا يمكن تحقيقه إلا من خلال السعي إلي تنفيذ مشروع التوريث المرتقب.
وهو الأمر الذي يعزز صحة بعض الكتابات والآراء التي أكدت إستحالة الإعتماد علي نموذج التحول الديمقراطي من الأعلي في الحالة المصرية، كما كان حال نخب جديدة في كل من البرازيل بدءا من عام 1973، وأسبانيا بدءا من عام1976، وتايوان بدءا من عام 1986، والمجر بدءا من عام 1989، لأن قيادات الأتوقراطية المُلبرلة التي تقود العمل السياسي داخل الحزب الوطني الديمقراطي حالياً، لم ولن تقدم إلا القليل في مجال تعزيز الحريات المدنية والحقوق السياسية، خاصة عندما يتعلق الأمر بتغيير الهيكل التشريعي والدستوري لضمان تقنينها، فعندما تتحدث هذه القيادات عن الإصلاح السياسي والدستوري، فأنهم يتحدثون في الواقع عن الحد الأدني من الخطوات والإجراءات التي تضمن بقائهم في السلطة، ويساعدهم في إعداد وتنفيذ مشروع التوريث الذي يشكل واحداً من أهم ركائز وضمانات تحقيق هذا الهدف. بل ويمكن القول أنه في كثير من الأحيان تكون الإجراءات والتدابير التنفيذية والتشريعية التي تقوم بها هذه النخبة متناقضة تماماً مع جوهر شعاراتهم وخطاباتهم الإصلاحية، ويُعد تعديل المادة (88) من الدستور والخاصة بالإشراف القضائي علي الانتخابات واحداً من أهم نماذج هذا التناقض، حيث تضمن تعديل هذه المادة مجموعة من الأفكار التي شكلت في مجملها عدولاً عن فكرة الإشراف القضائي الكامل علي الانتخابات التي تم ترسيخها في النظام الانتخابي المصري منذ انتخابات مجلس الشعب عام 2000، وذلك بهدف الحفاظ علي عملية تركيز مصادر القوة بوجهيها: المال والسلطة في يد نفس الفئة القليلة داخل المسرح السياسي.

الخميس، 23 يوليو 2009

الحرية للمدونين المحتجزين في مطار القاهرة



أكدت جريدة اليوم السابع أن سلطات الأمن بمطار القاهرة الدولى قد احتجزت فجر الثلاثاء اثنين من المدونين المصريين عقب وصولهم للمطار قادمين من تركيا، وذلك بعد مشاركتهم فى مؤتمر للداعية الإسلامى فتح الله كولن منذ عشرة أيام، وهما عبد الرحمن عياش (صاحب مدونة الغريب ) ومجدى سعد (صاحب مدونه يلا مش مهم) دون إبداء أسباب لاحتجازهما. وأشار الخبر أيضاً إلي تأكيد أسر المدونين علي أنهم تلقوا اتصالا هاتفيا من ذويهم يؤكد احتجازهما بالمطار، وأن سلطات الأمن تمنع دخولهما البلاد إلا بعد إجراء تحقيقا معهما حول مشاركتهما بالمؤتمر الذى تناول عددا من القضايا الدينية والسياسية.
وفي سياق متصل، قامت قوة من جهاز أمن الدولة باعتقال أحمد أبو خليل (صاحب مدونات البيارق والمنبر وأبو القسام والفراقد)، وذلك بعد مداهمة منزله وتفتيشه بالكامل، ومصادرة مجموعة من الكتب الخاصة به، ثم تم ترحليه إلي مقر أمن الدولة الكائن بمدينة نصر. ويذكر أن أحمد أبو خليل حاصل على ليسانس اللغة العربية وآدابها والدراسات الإسلامية من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة عام 2008، ويعمل في مجال تدريس اللغة العربية بمركز لسان العرب المهتم بتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، بالإضافة إلي عمله الصحفي في جريدة المصريون الإلكترونية، ومشاركته في عدد كبير من الأنشطة والمؤتمرات الطلابية، والتي كان من أهمها رئاسة نموذج مجمع اللغة العربية (أبجد) الذي يهدف إلى الاهتمام باللغة العربية؛ باعتبارها مكونًا أساسيًّا في عملية النهضة الحضارية والتقدم المنشود للمجتمع العربي والإسلامي، بالإضافة إلي أنه صاحب فكرة إنشاء نموذج مجمع البحوث الإسلامية، هذا ولم تعلن أي جهة عن الأسباب التي أدت إلي احتجاز أو اعتقال أياً من المدونين الثلاثة حتي الآن.
وجدير بالذكر أن هذا الأمر يأتي ضمن سلسلة المحاكمات والاعتقالات والمضايقات الأمنية التي طالت عدد كبير من المدونين ونشطاء الانترنت المعارضين للنظام السياسي خلال الفترة الماضية، والتي كان أقربها قيام مكتب أمن الدولة في مطار القاهرة باحتجاز وائل عباس (صاحب مدونة الوعي المصري) بعد عودته من السويد لمشاركته في احدي المؤتمرات المدعو إليها لأكثر من خمس ساعات,و منعه حتى من تناول اي طعام او ذهابه لدورة المياه, بالإضافة إلي مصادرة جواز سفره و تفتيشه ذاتيا بطريقة مهينة و تفتيش حقيبته, و مصادرة جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص به، وطُلب منه ان يوقع على ايصال انه سلمهم اياه حتى يعرضوه على المصنفات الفنية و لكنه رفض ذلك واعتصم امام المكتب حتى يسلموه الجهاز الخاص به. و ادى طول فترة احتجازه الى ضياع حقيبة ملابسه.

السبت، 11 يوليو 2009

المدونات السياسية وسلطة المعلومة


لم يكن يتوقع المفكر الكندى الشهير"مارشال مكلوهان"(1911م-1980م)، الذى يعد من أبرز فلاسفة الإعلام فى العالم، أن تصل كلماته الشهيرة بـأن "الرسالة هى الوسيلة" إلى أعلى درجات تفسيرها وتأويلها فى عصر المدونات السياسية التى تفتقر إلى حيز مكانى ملموس، وتتميز بكونها قابلة للإزاحة، فقد أصبحت هذه المدونات أو وسائل إعلام "النحن" كما يعرفها البعض فى وقتنا الراهن سبباً لإعادة التفكير فى المنظومة المفاهمية التقليدية التى ترتكز على مفاهيم أولية مثل المركز، والحدود، والتراتبية، والخطية، لكى تحل محلها خصائص جديدة مثل زوال المركز، وتعدد المستويات الخطية، والعقد النسيجية، والارتباطات التشعبية، والتى أصبحت أكثر ملائمة لمتطلبات عصرنا الراهن.فقد أوضح الكاتب الأمريكى "ألفن توفلر" فى كتابه "تحول السلطة" أن عناصر السلطة تمكن فى المال، والقوة، والمعلومة، ولكننا نرى أن فهم عدد كبير من القائمين على الحكم فى مصر لهذا المفهوم قد توقف عند عنصرين فقط هما: المال والنفوذ، ولذلك قاموا باستخدم كافة أساليب الضبط السياسى والاجِتماعى سواء المادية منها مثل الجيش والشرطة، أو المعنوية منها مثل أجهزة الإعلام والتربية والصحافة وتوظيف الدين من خلال فتاوى وآراء المؤسسات الدينية الرسمية فى الدولة، لضمان استمرار تحقيق أهداف مصالح الجماعة أو الطبقة المسيطرة عبر سيطرتها شبه الكلية على عنصرى المال والنفوذ، وبالفعل نجحوا إلى حد كبير فى نشر ثقافة الخضوع والاستكانة لدى فئات كثيرة من المحكومين فى داخل المجتمع، ولكنهم فى الوقت نفسه لم يدركوا أهمية المعلومة كأحد مصادر السلطة القوية التى قد تستخدم فى كسر أسطورة استبداد المال والنفوذ.

ومن هنا، جاء دور نشطاء الإنترنت الذين أعادوا قراءة مقولة توفلر عن عناصر السلطة الثلاثة، واكتشفوا النقص الموجود فى معادلة النظام السياسى الحاكم، والناتج عن تغافل أهمية المعرفة وسلطتها، فاختاروا المعرفة والمعلومة فى مواجهة المال والقوة، وعليه فقد شهدت المجتمع المصرى خلال السنوات القليلة الماضية تنافساً غير مسبوق بين إعلام المدونات البديل وسطوة الخطاب الإعلامى الرسمي، وسرعان ما اكتسب عالم التدوين قوة ومصداقية ما يعرف فى أدبيات العلوم الاجتماعية بظاهرة إعلام المواطن "Citizen Journalism"، وذلك بفضل الطبيعة التفاعلية التى تميزت بها هذه الآليات الإعلامية الجديدة والناتجة عن تزايد حجم التطور التقنى المستخدمة فيها وترجمته فى وسائل مثل الخوادم أو السيرفرات الضخمة، والحوائط النصية والمرئية، ومجموعات التفاعل، وقواعد البيانات المتطورة وغيرها. كل هذه العوامل قد مكنت مستخدمى المدونات من أن يكونوا بمثابة منتجين للمحتوى الإعلامى (نص- صوت- صورة- فيديو)، وأصبح كل مواطن مراسلاً مستقلاً، يلتقط الأخبار والمشاهد والأحداث، ثم يُعنونها، ويكتبُ تعليقاً عليها، ويحمّلها على الشبكة المعلومات الدولية، لتكون فى متناول الجميع بلا إستثناء.

فقد ظهرت هذه المدونات لتطرح بديلاً للإعلام الرسمى التقليدى، ولتستخدم لغة نقدية تختلف جذرياً عن الخطاب السياسى المهادن الذى يطرح من قبل غالبية جماعات المعارضة الرسمية ووسائل إعلامها الموجودة فى الواقع التقليدى. فلم يكن مستغرباً أن تجد عددا كبيرا من المدونات التى تم إنشاؤها لرصد ومناقشة بعض القضايا غير متداولة فى وسائل الإعلام الرسمى مثل قضايا التحرش الجنسي، وانتشار معدلات الإدمان والجريمة، وأوضاع بعض الأقليات الدينية والعرقية مثل البهائيين والنوبيين، وأحداث التوتر الطائفى بين المسلمين والمسيحيين، ومناقشة قضايا الفقر وضعف مستوى الخدمات، وسوء توزيع عوائد التنمية فى بعض المناطق والمحافظات مثل سيناء وجنوب الصعيد وغيرها. بل وفتحت هذه المدونات المجال أمام أجيال جديدة من الصحفيين والأدباء الشعبويين الشبان، ليعبروا عن أنفسهم وقضايا مجتمعهم من خلال الاعتماد على منهج استخدام المواطن كمصدر ومنتج ومستهلك للمعلومات فى نفس الوقت، وهو الأمر الذى لا يتوافر فى وسائل الإعلام التقليدية التى غالباً ما يحدث فصل فيها بين هذه العناصر الثلاثة سالفة البيان، مما ساهم فى كسر مصفاه الإعلام التى تتحكم فيها الدولة، وأدى إلى إزالة الكثير من مظاهر الغموض بشأن حرية المعلومات وسهولة الحصول عليها فى المجتمعات، وخلق نمط جديد من وسائل تعزيز المحاسبية والشفافية داخل النظم السياسية العربية.

فقد تحولت المدونات السياسية إلى سلطة قاهرة للمركزية تفرض نفوذها على المؤسسات الرسمية المسيطرة على الأنباء والمعلومات، وشكلت واحدة من أهم العوالم الافتراضية "Virtual Spaces"، التى يستطيع الفرد من خلالها إظهار تمرده وعصيانه السياسى فى ظل بيئة تفاعلية تحتوى على أكثر من مستخدم متفاعل معه دون قيود مفروضة من الواقع التقليدي.وبالرغم من تأكيد عبد الرحمن الكواكبى على وجود حرب دائمة وطراد مستمر بين الاستبداد والعلم، وأن فرائض المستبد ترتعد من العلم والعلماء، فالسؤال الذى يطرح نفسه الآن هو هل ينجح هؤلاء الشباب الذين لا تتعدى كل أسلحتهم عن كونها عبارة عن لوحة مفاتيح كمبيوتر وكاميرا ديجيتال وصفحات على شبكة المعلومات الدولية فى كسر سطوة المال والنفوذ التى تملك كافة أساليب الضبط والقهر الاجتماعى والسياسي؟! فلا تزال هناك حاجة ماسة لوسطاء ينقلون الحركة من الواقع الافتراضى إلى الواقع التقليدي، حتى لا تسقط المجموعات الشبابية فى فخ "النشاط السياسى الإلكتروني"- إذا صح التعبير- ويتركون الساحة السياسية التقليدية لغيرهم من الأفراد والمسئولين الذين يصنعون القرارات والسياسات بالنيابة عنهم.

إسلام حجازي

جريدة اليوم السابع


وجريدة دنيا الرأي

التعليم والشقاء الاجتماعى فى مصر


أكدت غالبية الدراسات الإمبريقية على وجود علاقة طردية قوية بين درجة تعليم الفرد ومستوى المعيشة الاجتماعية الذى يعيش فيه، بمعنى أن تحقيق انتقال الفرد بين الطبقات المختلفة يعتمد فى جزء كبير منه على مقدار ونوعية التعليم الذى يحصل عليه الفرد ومستوى المهارات العلمية والشخصية الخاصة به، وقد استخدمت مجموعة كبيرة من الدول هذه العلاقة الأكاديمية فى تحقيق التنمية المجتمعية الشاملة التى ساعدتها على الانتقال من مصاف الدول المتخلفة إلى ركب الدول المتقدمة، ويأتى فى مقدمة هذه الدول ماليزيا التى قام رئيس وزرائها مهاتير محمد بتركيز جزء كبير من اهتمامته على التعليم، وهو أمر ليس غريب على شخص مثله، فهو رجل مثقف وعالم يعرف قيمة العلم ويقدر أنه الوسلية الوحيدة لتحقيق نهضة الشعوب، ومن ثم أعطى لحق الفرد فى الحصول على التعليم الأولوية الكبرى فى برنامج التنمية الذى قاد تنفيذه فى البلاد.

وقد تأكدت هذه الحقيقة لدى حينما التقيت بالفعل فى إحدى الدورات التدريبية التى يعقدها مركز الدراسات الماليزية الموجود فى جامعة القاهرة مع أحد أساتذة العلوم السياسية الذى كان يتحدث على دور التعليم فى تحقيق النهضة الماليزية، وأكد لى أنه كان واحداً من فقراء ماليزيا، وأن أهله كانوا يعيشوا حياة بائسة، ولكنه الآن أصبح أستاذاً مشهوراً للعلوم السياسية، كما عمل مستشاراً شخصياً لرئيس الوزراء الماليزى لبعض الوقت، حيث تحققت له فرصة الاستفادة من حرصه الدائم على التفوق فى التعليم، فوجد دعماً مادياً ومعنوياً كاملاً من الدولة أثناء دراسته فى كافة مراحل التعليم فى ماليزيا، بل وأثناء حصوله على درجتى الماجستير والدكتوراه من إحدى الجامعات البريطانية، كما أنه حصل على وظيفية ملائمة بعد تخرجه فى الجامعة تتلاءم مع قدراته وليس مع حجم الواسطة والمحسوبية التى يتمتع بها، وأن الفقر لم يشكل عائقاً أمام تقدمه واستمرار تفوقه فى التعليم.

ولكن بعد أن انتهيت من هذا الحوار، بدأت فى عقد مقارنة بين ما يحدث فى ماليزيا وما يحدث فى مصر المحروسة صاحبة الريادة، فوجدت أنها تشكل استثناءً فريداً على كل الدراسات العملية التى أكدت العلاقة الوثيقة بين التعليم والحراك الاجتماعى، وذلك رغم إيمان معظم الأسر المصرية الغلابة بتلك المقولة التى ترى أن التعليم هو وسلية الخلاص الوحيدة من الفقر، فتتقطع من قوتها اليومى لتصرف على أبنائها فى التعليم حتى يصبح لديهم دكتور أو مهندس أو محامٍ أو محاسب...إلخ، بسبب اعتقادهم أن حصول أحد الأبناء على هذا اللقب سيكون مثل القشة التى ستنقذه هو وأسرته من الغرق فى بحر المعيشة "الدنك" التى يصبحون ويمسون عليها كل يوم، ولكن سرعان ما تتبخر كل أحلامه هو وأسرته التى تم رسمها فى عقولهم الباطنة بعد أن يطفح الشاب المتفوق الدم فى التعليم ويتخرج من الجامعة، فينضم إلى طابور العاطلين عن العمل، وتصبح المقاهى مقره الدائم، ولعب الطاولة والدومينو وتدخين الشيشة عمله الأساسى، ويزداد ألمه وحسرته حينما يرى من هم دونه فى التعليم والقدرات يلتحقون بالوظائف ويتقدمون فى المراكز والمناصب، وكمان يتحرق دمه لما يشوف إعلان وزارة الصناعة البايخ عن توفير فرص عمل فى بعض المصانع، والذى يحمل مسئولية تفاقم ظاهرة البطالة فى مصر للشباب المتعجرف الذى لا يرضى بالعمل الذى لا يتناسب مع مؤهلاته العلمية. وذلك رغم أن غالبية الفقراء المتعلمين فى مصر الذين يستطيعون الحصول على وظيفة، تكون عادة فى مجال لا يتناسب مع مؤهلتهم العلمية وقدراتهم، والأهم من ذلك أن راتبها لا يكفى لأكل عيش فقط ثلاث مرات فى اليوم، وهناك أمثلة عديدة يشاهدها الجميع لشباب خريحى كليات هندسة وتجارة وآداب..إلخ يعملون فى وظيفة حارس أمن فى عقار لمدة 12 ساعة فى اليوم الواحد، والأدهى من ذلك أن مرتبه بعد خصم التأمين يكون حوالى 250 جنيهاً شهرياً، يعنى اليوم بحوالى 8 جنيهات وخمسة وثلاثين قرش، ومطلوب منه أن يأكل ويشرب ويسكن ويركب مواصلات ويشترى ملابس منهم، وكمان يدخر علشان يجهز نفسه ويتجوز، خد بالك من الأخيرة "يتجوز" يعنى شقة وعفش وشبكة وفرح، وذلك فى الوقت الذى وصل فيه سعر كليو اللحمة إلى 50 جنيها، طب بلاش لحمة، خليها فراخ، كمان الفرخة بعشرين جنيها، بلاش ديه كمان، خليها فول، سندوتش الفول بجنيه، برده مش هاينفع!!

وفى اليوم ذاته، قرأت مقال لأستاذى الدكتور معتز بالله عبد الفتاح فى جريدة الوفد، زادت من درجة الشكوك التى لدى عن صحة العلاقة العلمية بين التعليم والحراك الاجتماعى فى الحالة المصرية، مضمونها كان يدور حول قصة انتحار شاب مصرى متفوق يعمل معيداً فى كلية العلوم بجامعة أسيوط، كان يستعد للسفر فى رحلة علمية مع زملائه إلى البحر الأحمر لشراء قواقع لإجراء بعض التجارب الخاصة برسالته للماجستير تكلفتها حوالى 1300 جنيه، ولكن بعد أن عجز هو وأسرته الفقيرة عن توفير هذا المبلغ، قرر أن يدخل غرفته ويستخدم أحد المواد السامة التى كان يستخدمها فى أبحاثه وتجاربه لإنهاء شعوره بكراهية النفس وانعدام القيمة وإحساسه القاتم بعدم الابتهاج بشئ والفزع والاغتراب، وفوق هذا كله إحساسه بالعجز والضيق الذى كان يقتله كل يوم، نعم أنه العجز المكتسب من البيئة المحيطة المحبطة، والتى يؤكد الدكتور خليل فاضل، الطبيب النفسى، على أنها تشكل مقدمة مهمة للانتحار فى مصر، مبيناً أن الفشل والعجز وعدم القدرة على تحقيق الذات دوماً واستمراراً يسكر الظهر ويحطم العظام، ويخلق أشباحاً لا تدرى بأى أرض تموت، لا أمل لها ولا مخرج، وهنا يثور التساؤل حينما يكون التعليم وسيلة للشقاء والعذاب النفسى بدلاً من الحراك الاجتماعى...فماذا يفعل الفقراء؟! فهل عليهم الانتحار من البداية حتى يعيش الأغنياء وأصحاب النفوذ فقط فى مصر المحروسة دون إزعاج من الفقراء وهمومهم؟!


إسلام حجازي

جريدة اليوم السابع

عرض كتاب: "المسلمون والديمقراطية: دراسة ميدانية"

المؤلف: معتز بالله عبد الفتاح
الناشر: دار الشروق
تاريخ النشر: الطبعة الأولي 2008
عدد الصفحات: 304


ربما كانت أهمية كتاب "المسلمون والديمقراطية: دراسة ميدانية" لمؤلفه الدكتور معتز بالله عبد الفتاح أستاذ العلوم السياسية بجامعتي القاهرة ووسط متشيجان الأمريكية، أنه قدم إلي الساحة الإكاديمية والفكرية بحثًًا علميًا رفيع المستوي حاول الإجابة من خلاله علي مجموعة من التساؤلات الكبري المرتبطة بالواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي المعيش في الدول الإسلامية، ومرتبطة بطبيعة الجدل الدائر والمستمر حول توجهات المسلمين تجاه قيم ومؤسسات نظام الحكم الديمقراطي. فالكتاب – كما يوضح مؤلفه- ليس كتابًا عن الإسلام العظيم، ولا عن نبيه الكريم، ولا عن النصوص وماحملت والتأويلات وما جمعت، وإنما هو كتاب عن المسلمين، وكيفية تعاملهم مع الديمقراطية وبدائلها قبولاً أو رفضاً. فهو عبارة عن دراسة علمية جادة ومتعمقة حاولت الإجابة عن السؤال الرئيسي التالى: هل هناك عداء حقيقى بين المسلمين والقيم الديمقراطية؟ وإذا كانت الإجابة بالنفي، فلماذا لا تناضل الشعوب الإسلامية من أجل الديمقراطية على نحو ما رأينا فى رومانيا وأوكرانيا وجورجيا وتشيلى وجنوب إفريقيا وفنزويلا وغيرها ؟! وذلك من خلال إجراء دراسة إمبريقية اعتمدت بشكل رئيسي علي تحليل نتائج استطلاعات الرأي والمناقشات المتعمقة لآلاف من المسلمين المتعلمين في 32 دولة إسلامية، بالإضافة إلي الأقليات المسلمة في الولايات المتحدة وأوروبا والهند، لاختبار موقفهم تجاه قيم ومؤسسات الحكم الديمقراطي.
وقد بدأ الباحث دراسته بوضع تعريفًا إجرائيًا لمفهوم الديمقراطية تضمن مؤشرات ستة، هي: حق التصويت للجميع بغض النظر عن النوع والعرق والدين، وحق المنافسة المكفول لكل القوي السياسية التي تحترم قواعد اللعبة الديمقراطية، واحترام الحقوق المدنية، وتعدد مراكز صنع القرار بما يتضمنه هذا من مساءلة ومسئوليات متوازنة، وقبول كافة القوى السياسية لقواعد اللعبة الديمقراطية، وأن تكون أصوات الناخبين هي المصدر الوحيد للشرعية، ثم حدد أنماطاً خمسة للتحول الديمقراطي، وهي: التحول في أعقاب ثورات اجتماعية كبري كما في بريطانيا وأميركا ورومانيا وجورجيا وأوكرانيا، والتحول الديمقراطي تحت سلطة الاحتلال أو بالتعاون معه كما حدث في الهند تحت الاحتلال البريطاني واليابان تحت الاحتلال الأميركي والعراق اليوم تحت الاحتلال الأميركي،
والتحول الديمقراطي تحت إدارة نخب ديمقراطية مستنيرة كما في البرازيل بدءا من عام 1973 وإسبانيا بدءًا من عام 1976 وتايوان بدءًا من عام 1986 والمجر بدءًا من عام 1989، والانفتاح السياسي التكتيكي الذي يفضي إلى مطالب ديمقراطية غير متوقعة كما في حالة جورباتشوف وكوريا الجنوبية عام 1987 وجنوب أفريقيا عام 1990، وأخيراً تعاقد النخبة المستبدة علي الانسحاب من الحياة السياسية بعد ارتفاع تكلفة القمع مثلما حدث في اليونان عام 1973 وفي البرتغال عام 1974 وفي بيرو عام 1977 وفي الأرجنتين عام 1982.
وقد تناولت هذه الدراسة مواقف قادة الرأى العام والمفكرين المسلمين تجاه قضايا السياسة والحكم في المجتمعات موضع الدراسة، واستند المؤلف في هذه الجزئية علي إجراء مقابلات شخصية مع قادة الرأى وتحليل الخطاب المكتوب والمسموع لعدد من هؤلاء المفكرين، وقسّم توجهات النخب الإسلامية نحو الديمقراطية إلى قسمين هما "الإسلاميون التقليديون" و"الإسلاميون التحديثيون"، وكذلك قسّم توجهات النخب العلمانية نحو الديمقراطية إلى قسمين أيضاً هما "العلمانيون السلطويون" و"العلمانيون التعدديون الليبراليون"، وقد أعطت البيانات والمعلومات المجمعة ترجيحاً معقولاً لادعاء الإسلاميين بأن لهم قواعد شعبية واسعة في معظم المجتمعات المسلمة، وأن العلمانيون لا يشكلون الأغلبية إلا في ستة مجتمعات فقط، هي: طاجيكستان(58 بالمائة)، وتركمنستان(48 بالمائة)، ومالي(48 بالمائة)، وتونس(58 بالمائة)، وألبانيا(63 بالمائة)، وتركيا(68 بالمائة). كما أكد المؤلف أن هناك تأثيراً واضحًا لما يتبناه قادة الرأي العام في المجتمعات المسلمة علي توجهات عامة المسلمين، الذين لا يختارون مواقفهم السياسية بصورة عشوائية، بل يعتمدون علي قادة الرأي ليفهموا العالم الذي يعيشون فيه ومن ثم يستجيبون للتحديات التي تواجههم.
كما حاولت الدراسة أن تبحث في تأثير مجموعة من العوامل الديموجرافية والاجتماعية مثل الدخل والتعليم والسن والجنس والتدين علي توجهات المسلمين نحو الديمقراطية سواء على مستوي المبادئ مثل التسامح مع النساء والأقليات، أو علي مستوي المؤسسات مثل ممارسة التصويت في الانتخابات العامة وقبول وجود برلمان منتخب وأحزاب سياسية. وقد أكد أسلوب التحليل الإحصائي المستخدم أن الأشخاص الأغني يكونوا أكثر تسامحًا مع الحقوق السياسية للنساء والأقليات في معظم المجتمعات موضع الدراسة، باستثناء الكويت ونيجيريا اللتين كان أغنياؤهما أقل تأييداً للمبادئ الديمقراطية. وعلي مستوي المؤسسات، فقد أكد الباحث أن الدخول المرتفعة تؤدى إلي تأييداً أكبر للمؤسسات الديمقراطية، بيد أن حالات مثل الأردن وعمان والسعودية والبحرين قد أعطت نتائج عكسية، لأنها شكلت مثالاً واضحاً لما أطلق عليه المؤلف اسم "بيروقراطيات البقشيش" التي يتلقي المواطن فيها بقشيش الدول مباشرة أو عن طريق غير مباشر. وبدا أن للتعليم تأثيراً إيجابياً واضحاً علي توجهات المبحوثين تجاه المبادئ والمؤسسات الديمقراطية في غالبية حالات المجتمعات موضع الدراسة ما عدا حالتي السعودية والإمارات اللتين كان للتعليم فيهما تأثيراً سلبياً على التوجهات نحو قيم الديمقراطية ومؤسساتها.
ومن ناحية أخري، فقد أشارت الدراسة إلي وجود تأثيراً إيجابياً للعمر علي دعم المبادئ الديمقراطية في كل من الهند والكويت ولبنان وباكستان والسعودية وطاجيكستان وتونس والإمارات، بينما لم يكن هناك تأثير واضح لعمر المبحوثين علي توجهاتهم نحو المؤسسات الديمقراطية في ثلثي الدول التي تم دراستها، بيد أن المسلمون الأكبر سنا في جامبيا وإندونيسيا والكويت ومالي ونيجيريا وتونس كانوا أكثر تأييدًا للمؤسسات الديمقراطية من المسلمين الأصغر في هذه الدول. أما علي مستوي النوع، فقد أظهرت المناقشات المتعمقة أن أكثر النساء علمانية يرفضن بشكل واضح الربط بين تواضع الدور الذي تلعبه النساء المسلمات في الحياة العامة بالشريعة، وأن المرأة المسلمة من الممكن أن تكون حرة بطريقة إسلامية دون اتباع طريق المرأة الغربية أو المرأة المضطرة للحجاب كما في أفغانستان. وفيما يتعلق بتأثير التدين علي توجهات المبحوثين نحو قيم ومؤسسات الديمقراطية، فقد أظهرت الدراسة أن الأشخاص الأكثر تمسكاً بمظاهر التدين يكونوا أقل تأييداً للمبادئ الديمقراطية بين مسلمي البحرين وبنجلاديش وأوروبا وجامبيا والهند وإندونيسيا والأردن والكويت ونيجيريا وعمان وباكستان وقطر والسعودية وتركمنستان والإمارات واليمن، وكذا فإن المسلمون الذين أوضحوا أنهم أكثر التزماً بالشعائر الدينية في كل في أوروبا وإندونيسيا ولبنان وماليزيا والمغرب وعمان وقطر والسنغال والسودان وتركيا كانوا أقل تأييدًا للمؤسسات الديمقراطية، بيد أنه لم توجد علاقة أصلية بين التدين ومساندة المؤسسات الديمقراطية في باقي الدول موضع الدراسة.
كما حاول الباحث أن يتناول أدوار ثلاثة من أهم الفاعلين السياسيين الذين يعتقد المبحوثون أنهم إما مسئولون عن استمرار التسلط أو مهمون من أجل العبور نحو الديمقراطية، وهم: الحكام والغرب وعلماء الدين. وقد أكدت الأرقام أن 20 بالمائة فقط من المسلمين مؤيدون للحكام الحاليين، بما يعني أن معظم حكومات المسلمين تعاني من أزمة شرعية، بيد أن حالات مثل الإمارات وعمان كانت الأعلي في الدعم الشعبي الذي يحشده مواطنوها للحكام الحاليين في مقابل نظام آخر يعتمد علي الانتخاب الديمقراطي، كما أظهرت نتائج استطلاع الرأي أن المسلمون متشككون جداً من مصداقية توجه الغرب في تشجيع تغييرات ديمقراطية في العالم الإسلامي، حيث أكد 8 بالمائة فقط من المبحوثين أنهم يثقون أن الولايات المتحدة وحلفاءها يساندون فكرة إقامة نظم ديمقراطية في العالم الإسلامي. وبالرغم من ارتفاع ثقة المجيبون علي استطلاع الرأي في الدور الذي يقوم به علماء الدين المستقلين في تشكيل العقل المسلم، إلا أن الباحث قد أستنتج أن محاربة التسلط السياسي لم تكن جزءًا أصيلاً من أولويات الخطاب الديني المعاصر في معظم المجتمات ذات الأغلبية المسلمة.
وقد انتقل المؤلف في أحد أجزاء الدراسة من التحليل علي مستوي الفرد إلي التحليل علي مستوي الدولة لمعرفةكيف ولماذا تتفاوت المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة فيما بينها؟ وأكدت البيانات الإحصائية أن مسلمي تركيا والمغرب ومصر والولايات المتحدة وماليزيا وألبانيا والهند ومالي وتونس وربما الأدرن وإيران يحتلون الدرجة الأعلي في دعم المبادئ الديمقراطية ومؤسساتها، في حين احتل مسلمو السعودية واليمن وطاجيكستان والسودان وربما باكستان ونيجيريا الدرجة الأقل في هذا الشأن، وهو ما أكد علي وجود تفاوتاً واضحاً بين غالبية المجتمعات موضع الدراسة. كما أكد الباحث أن غياب التحول الديمقراطي في العالم العربي يمكن إرجاعه نسبياً إلى عدم الاستعداد للتضحية من أجل الحقوق السياسية. فعلي سبيل المثال، قد وافق 73 بالمائة من المسلمين علي عقد صفقة مع حاكم مستبد يحكم مدي الحياة مقابل تحرير فلسطين، وارتفعت هذه النسبة بين الدول العربية علي وجه الخصوص لتصل إلى 89 بالمائة من العرب.
ثم جاءت خاتمة الدراسة لتنتهي إلي أن كافة معطيات حالة الديمقراطية في العالم العربي، تشير إلي تراجع التسلطية التقليدية ليحل مكانها تسلطية تنافسية علي النمط الروسي، وهو النظام الذي توجد به مؤسسات ديمقراطية قانونية تتراضي أطراف العملية السياسية علي أنها مصدر الشرعية بيد أن النخبة الحاكمة تنتهك هذه المؤسسات حينما تجد نفسها بحاجة لهذا، فالتسلطية التنافسية بحكم التزامها الشكلي بالمؤسسات والإجراءات الديمقراطية، تعطي انطباعاً زائفاً بالديمقراطية ولكنها ليست كذلك، وهي بهذا تضع نفسها في حالة توتر دائم قد يعجل بفنائها إذا نجحت القوى المعارضة والمستقلة عن الحكومة أن تقدم شرعية بديلة.

تم نشر هذا العرض في: مجلة الديمقراطية، السنة التاسعة/ العدد 34، أبريل 2009.

الليبرالية الكوميونية فى الفيس بوك


بدأ انتشار ظاهرة الفيس بوك عالمياً منذ عام 2006 تقريباًً، وكان تأثيرها محدوداً للغاية فى مصر خلال مرحلة البداية، ولكنها بدأت تظهر بشدة مع حالة الحراك السياسى، التى وجدت فى الشارع خلال الفترة الماضية، ومع تفجر المظاهرات والاعتصامات والاحتجاجات فى كل مكان وبين عدد كبير من القطاعات الفئوية الموجودة فى نسيج المجتمع، فلم يكن يخطر ببال أحد أن هذا العالم الافتراضى سوف يتسع بوتيرة متزايدة ليبلغ عدد سكانه المصريين أكثر من مليون مواطن، فهذا الموقع كان بداية انطلاق لمرحلة "ما بعد التفاعلية" فى تطبيقات الإنترنت، فهو لم يعد مجرد وسيلة للترفيه والتسلية، بل أصبح واحداً من أهم الوسائل التى ساعدت على خروج عدد كبير من الشباب المصرى من ظاهرة "الشيخوخة السياسية" المبكرة التى فُرضت عليهم من جانب كافة هياكل ومؤسسات وأجهزة المجتمع، سواء الرسمية منها مثل الأحزاب السياسية والمؤسسات الدينية والجامعات أو غير الرسمية منها مثل الأسرة وجماعات الرفاق ومنظمات المجتمع المدنى، حيث جاءت ظاهرة الفيس بوك لتأسس نوعاً جديداً وغير مألوف بالنسبة لمجتمعنا من السياسية الافتراصية التى تتفاعل مع كافة المعطيات والأحداث والقضايا التى تفرزها البيئة الواقعية.
ويلاحظ المتابع لانتشار هذه الظاهرة فى المجتمع المصرى، وجود تنامى فى دور هذا الموقع الافتراضى المتعلق بنشر وتعزيز ثقافة الديمقراطية، وتوعية الشباب، خاصة أبناء الطبقة الوسطى النُشطاء فى الإنترنت، بالحقوق والحريات الأساسية للمواطن، كما جاءت فى المواثيق والإعلانات الدولية، وكما تناولتها التشريعات والقوانين الوطنية، وذلك من خلال العديد من الأنشطة والفاعليات التى اهتمت بنشر ثقافة المواطنة القائمة على قيم المساواة وعدم التمييز والمشاركة والتعددية والتسامح والمسئولية الاجتماعية وغيرها، بما ساعد على بناء إطار معرفى وهيكلى جديد من الليبرالية الكوميونية "Communal Liberalism" التى تهدف إلى بناء شعور جماعى أو تضامنى منسجم من المبادئ والقيم الليبرالية، وهو الأمر الذى يمكن الاستدال عليه من خلال كثرة عدد المواقف والفعاليات التضامنية المختلفة التى يتم إطلاقها كل يوم تقريباً وتهدف إلى دعم بعض قضايا حقوق الإنسان وحريته الإساسية. فعلى سبيل المثال وليس الحصر، فإن مصادرة كتاب "عشان ما تنضربش على قفاك" - الذى أصدره المحامى عمر عفيفى بخصوص حقوق المواطن وحرياته عند تعامله مع جهاز الشرطة، من الأسواق، لم تقف حائلاً أمام الشباب الذين يريدون معرفة محتويات هذا الكتاب، فمنذ اللحظة الأولى لمصادرة الكتاب من الأسواق تواصل عدد كبير من الشباب على إحدى المجموعات الخاصة التى تم تصميمها لمتابعة ومناقشة هذا الحدث، وتم طرح محتويات الكتاب على صفحة المناقشات الخاصة بالمجموعة، لطرح وتبادل الآراء بخصوص مضمونه وكيفية تفعيله فى الواقع، بل وتم توفير نسخ كاملة للتحميل المجانى من هذا الكتاب على عدد مواقع الاستضافة الشهيرة.
قصارى القول، أن هذا الموقع الافتراضى الجديد قد نجح فى زحزحة أسقف التعبير الضيقة التى وضعتها مؤسسات النظام التقليدية، وخلق نوع جديد من الليبرالية التضامنية التى يقف أصحابها فى تماسك وتلاحم قوى ضد ممارسات السلطة غير القانونية التى تعمل على تقييد حقوق المواطن وحرياته الأساسية، وذلك لأنه عبارة عن فضاء شبكاتى جوهره افتراصى لا صلة له بالحدود الجغرافية أو السياسية المعروفة، برز فى صورة عشوائية، واستمر كذلك مما ساعد على ابتعاده عن أنظار الرقابة والسيطرة والقمع التى تمارسها الأجهزة التنفيذية للدولة ومؤسساتها الأمنية، وبالرغم من توسع بعض الأجهزة الأمنية فى الدولة خلال الفترة الأخيرة فى التضييق على نشطاء الفيس بوك من اختطاف وتهديد وتعذيب، إلا أنها مازالت عاجزة عن منع انتشار تلك الظاهرة بين الأوساط الشبابية، والتى أصبحت مثل التنين الافتراضى الذى لا يستطيع أحد قتله.

إسلام حجازي
جريدة اليوم السابع