في أوائل الثمانينات من القرن المنصرف ظهر للوجود فيلم "حب فوق هضبة الهرم"، جُسد فيه موقف كاتب صحفي معارض، قام بتأديته باتقان الممثل المبدع صلاح نظمي، وتظهر احدي مشاهده هذا الصحفي وقد ذهب إليه بطل الفيلم (أحمد زكي) أثناء وجوده في المقهي الذي أعتاد الجلوس فيه، يطلب مساعدته في حل مشكتله الحيوية بالتفكير في الزواج، مذكراً أياه بكل القيم والمبادئ والأفكار التي تضمنتها كتاباته ومقالاته الصحفية الجرئية حول الوضع المأساوي الذي يعيشه شباب الطبقة الوسطي في مجتمع الإنفتاح، حيث هم هذا المثقف الانتهازي مسرعاً إلي مغاردة المقهي، ومتجهاً إلي ركوب سيارته المرسيدس الفارهة، بعدما أعطي ظهره لبطل الفيلم البائس وأكدت كلماته الصادمة والموجهة إليه عدم قدرته علي فعل أي شئ بخصوص هذا الأمر، وأن كل ما يكتبه من آراء لا يتعدي كونه مجرد كلام جرائد.
ذلك المشهد السينمائي الموجز والرائع، ذكرني بما تعيشه الحياة السياسية في مصر هذه الأيام بعد ان كشفت احدي الصحف عن وجود صفقة انتخابية، ابرمت سراً بين حزب الوفد والحزب الوطني الحاكم، يضمن بها الأخير فوز الأول بـ 23 مقعداً علي الأقل في انتخابات مجلس الشعب المقبلة علي حساب الإخوان المسلمين، في مقابل عدم تقديم الوفد أي شكل من أشكال الدعم أو التعاطف مع الدكتور محمد البرادعي، أو برنامج "الجمعية الوطنية للتغيير" التي دشنها المدير السابق لوكالة الطاقة الذرية بمشاركة عدد من الأحزاب والقوي السياسية، وكذا المؤتمر الهزلي الذي عقده بالوكالة عن الحزب الحاكم أعضاء تحالف ما يسمي بـ "كتلة أحزاب المعارضة"، والذي شارك فيه كل من الحزب الجمهوري الحر، وحزب الشعب الديمقراطي، وحزب مصر العربي الاشتراكي، وحزب الاتحاد الديمقراطي، بهدف الإعلان عن موقفهم الرافض لترشيح البرادعي لانتخابات الرئاسة المقبلة في ضوء تبنيه لأجندة سياسية ذات صبغة خارجية وافتقاره إلي المعايير والصفات التي تؤهله للترشح لمنصب رئاسة الجمهورية، كما ذهبوا إلي إعداد قائمة طويلة من الاتهامات تتركز بالأساس علي ولائه لأمريكا وقيامه بالتغطية علي البرنامج النووي الإسرائيلي، مؤكدين أنه تعمد عدم إثارة هذا الملف طوال فترة رئاسته للوكالة الدولية للطاقة الذرية علي حد قولهم.
صحيح أن القيام بعقد الصفقات السياسية والانتخابية ليس أمراً جديداً علي تاريخ الحياة السياسية والنيابية في مصر، وأنه ظل يشكل جزءً رئيسياً من منظومة التفكير السلطوي التي تسعي دائماً إلي فرض الهيمنة والسيطرة دون وجود قوي منافسة، ولكن خروج مثل هذه الصفقات المشبوهة في هذا التوقيت الحرج علي وجه التحديد، والذي يطالب فيه الجميع كل الأحزاب والقوي السياسية بضرورة الإلتفاف والتوحد علي مرشح واحد في سباق الانتخابات الرئاسية القادمة، رغبة منهم في زيادة درجة انفتاح "النوافذ السياسية" التي توفر فرصاً للفعل الحقيقي الراغب في تفعيل خطوات الإصلاح الدستوري والسياسي، وتعمل في اتجاه مواجهة القيود والعراقيل التي يضعها النظام السياسي أمام أي فعل جماعي مشترك من أجل المحافظة علي الوضع الراهن والذي يحقق مصالحه، ما هو إلا تكريس لحالة الفوضي البنيوية التي تسيطر علي عدد كبير من أحزاب المعارضة الرسمية منذ زمن ليس بالقليل.
فبالرغم من زيادة عدد الأحزاب الرسمية من الناحية العددية، إلا أن المرء لا يجد لها تأثيراً واضحاً بين الجماهير، ويكفي أن نشير هنا إلي تواضع ارقام عضوية هذه الأحزاب التي ظلت تعمل لفترات طويلة نسبياً دون أن تستطيع توفير الحد الأدني من القواعد الجماهيرية، التي يمكن الاعتماد عليها للحصول علي مزيد من الاستحقاقات الانتخابية واحتلال مواقع سياسية مؤثرة داخل بنية السلطة في مختلف هياكل ومؤسسات النظام السياسي المصري، الأمر الذي شكل سبباً رئيسياً وراء حصول كل الأحزاب السياسية الرسمية مجتمعة في الانتخابات البرلمانية لعام 2000 على 17 مقعد فقط، كما أبلت هذه الأحزاب بطريقة أكثر سوءًا في انتخابات 2005 حينما حصلت على 12 مقعد فقط.
والحقيقة أن أغلب هذه الأحزاب قد نشأ في صورة نخبوية وبمباركة من الحزب الحاكم نفسه لإضفاء صفة التعددية الحزبية علي النظام السياسي، وبعضها حصل علي صفة الوجود القانوني من خلال المحاكم الإدارية، ولكنها ظلت بعيدة عن التفاعل والتواصل مع الجماهير، نتيجة جمود خطابها السياسي وفشلها في طرح بديل حقيقي يسعي إلي المنافسة علي السلطة، وعدم قدرتها علي ابتكار آليات ووسائل جديدة لتوفير التمويل السياسي اللازم، والذي يضمن بقاءها ويساعدها علي إنجاز الوظائف والأهداف التي تعظم من قدرتها التنافسية في مواجهة الحزب الحاكم، بالإضافة إلي إفتقار غالبية هذه الأحزاب إلي الممارسات الديمقراطية الداخلية عند اختيار القيادات والكوارد الحزبية، ولعل ما شهده حزب الوفد من أحداث عنف وبلطجة في داخل مقره كنتيجة للصراع علي رئاسته، واستمرار تزايد القضايا المنظورة في المحكمة الإدارية العليا بشأن النزاعات القائمة علي رئاسة عدد كبير من الأحزاب الأخري خير دليل علي ذلك، وهو ما يذكرنا بالمثل الشعبي القائل بأن "فاقد الشيء لا يعطيه".
بيد أن الأخطر في كل العوامل السابق ذكرها أنها تعمل في اتجاه تكريس ظاهرة عدم ثقة المحكومين في الأفراد القائمين علي السلطة من الحكومة والمعارضة علي حد سواء، فبدون توافر عناصر الثقة السياسية المتمثلة في القدرة والمسئولية يصعب بناء النظام الديمقراطي والنهوض بالمجتمع، وتزداد درجة فقدان الأمل في إيجاد البديل القادر علي تلبية الأهداف والمصالح العامة، أن الجماهير لا يقبلون علي المشاركة في الانتخابات بمزيد من الحيوية والدأب، إلا حينما يتوافر لديهم قدر كبير من الثقة في شفافية ونزاهة المؤسسة الانتخابية من جانب، وفي الأفراد المرشحين للدفاع عن حقوقهم تجسيداً للصالح العام من جانب آخر، ومن ثم فتنامي الشعور بعدم الثقة السياسية من جانب أغلب المواطنين، يحول دون تحقيق الهدف الرئيسي من الانتخابات والمتمثل في التدوال السلمي للسلطة، وهو الأمر الذي أطلق عليه البعض تعبير الخدعة الانتخابية "Fallacy of Electoralism"، بمعني أن الانتخابات في مثل هذا السياق غير الصحي لا تكون آلية للتعبير عن مدي رضاء المحكومين عن حكامهم، وإنما يتم إستخدامها من أجل إظهار واجهة ديمقراطية مزيفة تخفي ورائها نظام بعيد كل البعد عن الحد الأني من معايير النظام الديمقراطي، فتكون عبارة عن آلية لتقنين الحكم التسلطي، أو بعبارة أدق التسلطية ذو الوجه الديمقراطي.
المعركة الحقيقية لكافة الأحزاب والقوي السياسية في مصر اليوم هي معركة الحصول علي ثقة الجماهير في مواجهة نظام سياسي مترهل وفاقد للشرعية، يحاول أن يوظف ما لديه من هياكل وأدوات قانونية صنعها هو دون مشاركة من قبل الآخرين، لإستمرار إشاعة مناخ عدم الثقة السياسية والذي بات يشكل الضمان الوحيد والأوحد لفرض هيمنته علي السلطة، واستمرار وجود قياداته من شاغلي المناصب المستفيدين والمتربعين في مراكزهم، وهو بهذا يضع نفسه في حالة توتر دائم قد تعجل بفنائه إذا ما نجحت القوى المعارضة والمستقلة عن الحكومة أن تقدم شرعية بديلة.
بقلم/ إسلام حجازي
موقع الحوار المتمدن، العدد (2953)، الأربعاء 23 مارس 2010
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=208845
وجريدة دنيا الرأي، يوم الأربعاء 23 مارس 2010
http://pulpit.alwatanvoice.com/content-193070.html
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق