وقد تمكنت هذه المجموعة بالفعل من إزاحة عدد من القيادات التاريخية في الحزب والحكومة الذين تربوا سياسياً علي مفاهيم ما كان يعرف بـ"الاتحاد الاشتراكي" أيام الرئيس السابق جمال عبد الناصر، حيث تقلد أنصار تلك المجموعة عدد كبير من المواقع التنفيذية في الأمانة العامة للحزب الحاكم، وفي مجلس الوزراء تدريجياً، كان من أبرز محطاتها تعديلات وزارية في عامي 2004 و 2005، بالإضافة إلي تولي عدد من الصحفيين الشبان قيادة مجموعة من الصحف القومية، وقد ظهرت تجليات بحثية وفكرية متعددة تؤكد وجود صراعاً خفياً بين جناحين في الحزب الحاكم، أحدهما يقوده جمال مبارك ومعه عدد من الرموز الشبابية النشطة علي كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، واطلق عليهم "الحرس الجديد"، بينما وصف الآخر بـ"الحرس القديم"، الذي كان من أبرز رموزه يوسف والي الذي تقلد لوقت طويل منصب الأمين العام للحزب، ونائب رئيس الوزراء، ووزير الزراعة، وكذلك كمال الشاذلي الذي يوصف بأنه أقدم نائب برلماني في العالم، وشغل مناصب عديدة في الحزب الحاكم والحكومة، كان من أهمها موقع أمين التنظيم، ووزير شؤون مجلسي الشعب والشوري.
وبالرغم من تعويل بعض الكتابات والآراء علي دور الصراع بين ما اسمته بالحرس القديم والجديد بالحزب الوطني في عملية الإسراع بتفكيك وإنهيار بنية التسلطية التنافسية في النظام السياسي، إلا أن الواقع الفعلي يؤكد أن النخبة الحاكمة مازالت تتمتع بدرجة مرتفعة من التماسك بين أعضائها حتي مع تحولها المقصود من نموذج الأتوقراطية الكاملة إلي نموذج الأتوقراطية المُلبرلة "Liberalized Autocracy" عن طريق إدماج بعض الجماعات الجديدة من رجال الأعمال والبيروقراطيين والمهنيين الراغبين في تحرير الاقتصاد، وذلك بهدف تسهيل عملية انتقال السلطة من الرئيس مبارك إلي نجله، حيث أن المصالح والروابط الموجود بين تلك النخب الجديدة والنخب القديمة، والتي تعتمد في جزء كبير منها علي علاقات العمل المشترك والقرابة والمصاهرة وغيرها مازالت قادرة علي إحداث التماسك والوحدة بالشكل الذي يمنع حدوث أي إنشقاق داخلي فيها، يكون من شأنه التأثير في مسار التحول الديمقراطي بالبلاد، بل والأخطر من ذلك هو أن سيطرة طبقة رجال الأعمال علي تركيبة هذه النوعية الجديدة من النخبة بنسبة تتعدي حاجر الـ 30 % في عضوية أمانة السياسات، وتوزيع ثرواتها في مجالات مختلفة مثل الصناعات الثقيلة، والطب والدواء، والمقاولات، وقطاع البنوك وشركات الأوراق المالية وغيرها، يجعلها قادرة علي إتمام مجموعة كبيرة من "المقايضات السياسية" القائمة علي الزبائنية أو شراء الولاء مع باقي فئات النخبة من البيروقراط والتكنوقراط والمهنيين ورجال الدين، بهدف توظيفهم لخدمة أهداف ومصالح طبقة رجال الأعمال في إطار مع المنافع المشتركة بينهم، والتي من أهمها ضرورة العمل علي إعطاء دور سياسي لأمين لجنة السياسات، باعتباره مرشحهم للانتخابات الرئاسية القادمة التي سوف تشهدها البلاد في عام 2011، ناهيك عن وجود عدد كبير من القدرات المالية والدعائية لدي هذه النخبة المسيطرة التي تستخدم فيها مؤسسات الدولة وأجهزتها، بالشكل الذي يؤدي إلي زيادة نسبة الاستحقاقات الانتخابية لها بالرغم من ضعف قبولها الشعبي، وبما يمكنها من حسم الأغلبية في الانتخابات التشريعية لعام 2010، خاصة وأن هذه النخبة مازال لديها قدرة متوسطة علي القمع تتراوح صعوداً وهبوطاً بالاعتماد علي شعبية المعارضين الداخلية وروابطهم من المجتمع الخارجي، إذ مازالت تحتفظ بهيكل تشريعي ودستوري به قدر كبير من الثغرات التي تمكنها من ممارسة القهر علي المعارضين، والتي يقع علي رأسها قانون الأحزاب السياسية وقانون الطوارئ.
وبعد مرور سبعة أعوام كاملة علي ما اعتاده المواطنون من سماع خطابات وتصريحات متكررة من قيادات النخبة الأتوقراطية المُلبرلة في كل مؤتمر يعقده الحزب حول بدء تفجير ثورة "التطوير والتحديث" داخل أروقة الحزب، وسياسات الإصلاح السياسي، والتكافل الاجتماعي، وحقوق المواطنة، وغيرها من الشعارات التي رددها قيادات الحزب الوطني منذ مؤتمره العام الثامن في 2002، وحتي مؤتمره السنوي السادس لعام 2009، يمكن القول أن النتائج الفعلية التي حققتها هذه الخطب والشعارات علي أرض الواقع في مجال تعميق الممارسات الديمقراطية مازالت محدودة ومتواضعة للغاية، حيث أنها لم توفر حتي الآن الحد الأدني من الشروط والمعايير التي يمكن بها الانتقال بمصر من مصاف دول التسلطية التنافسية إلي دول الديمقراطيات الناشئة، تمهيداً لدخولها إلي دول الديمقراطية الراسخة، فهي لم تمثل في مجملها إلا نوعاً من أنواع الانفتاح السياسي المحدود أو التكتيكي"Limited Political Liberalization"، عبر تقديم مجموعة أولية من التنازلات في مجال الحريات المدنية والسياسية للقوي والجماعات المعارضة، بما يتلائم مع رغبة النخبة الحاكمة في التكيف أو التعايش مع تزايد الطلب المجتمعي علي الديمقراطية ، ويحافظ علي تركيبة بنية السلطة وشكل نظام الدولة شديد المركزية في نفس الوقت، والذي لا يمكن تحقيقه إلا من خلال السعي إلي تنفيذ مشروع التوريث المرتقب.
وهو الأمر الذي يعزز صحة بعض الكتابات والآراء التي أكدت إستحالة الإعتماد علي نموذج التحول الديمقراطي من الأعلي في الحالة المصرية، كما كان حال نخب جديدة في كل من البرازيل بدءا من عام 1973، وأسبانيا بدءا من عام1976، وتايوان بدءا من عام 1986، والمجر بدءا من عام 1989، لأن قيادات الأتوقراطية المُلبرلة التي تقود العمل السياسي داخل الحزب الوطني الديمقراطي حالياً، لم ولن تقدم إلا القليل في مجال تعزيز الحريات المدنية والحقوق السياسية، خاصة عندما يتعلق الأمر بتغيير الهيكل التشريعي والدستوري لضمان تقنينها، فعندما تتحدث هذه القيادات عن الإصلاح السياسي والدستوري، فأنهم يتحدثون في الواقع عن الحد الأدني من الخطوات والإجراءات التي تضمن بقائهم في السلطة، ويساعدهم في إعداد وتنفيذ مشروع التوريث الذي يشكل واحداً من أهم ركائز وضمانات تحقيق هذا الهدف. بل ويمكن القول أنه في كثير من الأحيان تكون الإجراءات والتدابير التنفيذية والتشريعية التي تقوم بها هذه النخبة متناقضة تماماً مع جوهر شعاراتهم وخطاباتهم الإصلاحية، ويُعد تعديل المادة (88) من الدستور والخاصة بالإشراف القضائي علي الانتخابات واحداً من أهم نماذج هذا التناقض، حيث تضمن تعديل هذه المادة مجموعة من الأفكار التي شكلت في مجملها عدولاً عن فكرة الإشراف القضائي الكامل علي الانتخابات التي تم ترسيخها في النظام الانتخابي المصري منذ انتخابات مجلس الشعب عام 2000، وذلك بهدف الحفاظ علي عملية تركيز مصادر القوة بوجهيها: المال والسلطة في يد نفس الفئة القليلة داخل المسرح السياسي.